ببساطة ودون تعقيد .. ما الذي يحدث بالضبط الآن في وول ستريت؟ وكيف أصبح حيتان السوق تحت رحمة صغار المتداولين؟



من يشجع كرة القدم يعرف بالتأكيد ذلك الشعور الذي يعتري الواحد منا حين يرى أحد لاعبي الفريق الخصم يراوغ مرواغة بها لمحة من الفن والجمال، لا يسعه بعدها سوى التصفيق وابداء الإعجاب والاحترام بحرفية ومهارة للاعب الخصم. هذا بالضبط ما يشعر به المستثمرين الأفراد بسوق الأسهم حول العالم هذه الأيام تجاه الملحمة الدائرة منذ أيام في وول ستريت، ولكن الفارق هو أن أصحاب المراوغة المثيرة للإعجاب ليسوا خصومهم وإنما من فريقهم، إنهم صغار المتداولين.
في سوق الأسهم، يستهزئ كثيرون أحيانًا بالمستثمرين الأفراد وبالأخص صغارهم باعتبارهم صيدًا سهلًا، ويطلق عليهم البعض "dumb money" أو أموال غبية محكوم على أصحابها بالخسارة دائمًا أمام المحللين والكبار من المستثمرين الثقال والصناديق الاستثمارية، الذين يستطيعون تحريك السوق يمنة ويسارًا، ورغم أن هذا قد يكون صادمًا للبعض إلا أنها حقيقة يقرها الواقع. صغار المتداولين حظوظهم ضعيفة أمام الكبار، ولكن مع بعض الاستثناءات.
ومن هذه الاستثناءات هو ما يحدث في سوق الأسهم الأمريكي على مدار هذا الأسبوع. باختصار تمكن مئات الآلاف من صغار المتداولين من تنظيم صفوفهم والإجهاز معًا على عدد من أكبر الصناديق في السوق والتي تدير أصولًا بمليارات الدولارات لينتهي الحال ببعضها الآن لتواجه شبح الإفلاس. ببساطة، حاولت الصناديق نصب فخ اعتيادي لصغار المتداولين لطالما وقعوا فيه بسبب تشرذمهم.ولكن الضحية تمكنت هذه المرة من قلب الطاولة على الصناديق ومحاصرتها أعلى الشجرة ولا تسمح لها حتى الآن بالنزول من عليها. هذه قصة ستعجب بالتأكيد عشاق التشويق والإثارة، وعلى الأغلب ستدرس في كليات الأعمال في السنين القادمة بغض النظر عما ستؤول إليه في النهاية، وربما تكون أيضاً مادة دسمة لعدة أفلام هيولودية.قواعد اللعبةفي البداية ولكي تفهم ما الذي يجري يجب أولًا أن تعرف ما يسمى بالبيع على المكشوف. والبيع على المكشوف لمن لا يعرف هو ممارسة يقوم خلالها المستثمر باقتراض سهم معين من شركة وساطة مقابل رسوم متفق عليها، ليبعه في السوق بسعره الحالي، على أمل أن يتمكن من شرائه لاحقًا بسعر أقل ليرده إلى شركة الوساطة ويغلق مركزه المفتوح، ويحقق الربح من الفارق بين سعري البيع والشراء. والمستثمر لا يبيع على المكشوف سوى السهم الذي يعتقد أن سعره سيتراجع.على سبيل المثال، لنفترض أنني أعتقد أن السهم "س" الذي يتداول حاليًا عند مستوى 10 ريالات في طريقه للانخفاض الأسبوع القادم لأي سبب. في هذه الحالة من المنطقي أن أقوم ببيع هذا السهم على المكشوف، وذلك من خلال اقتراض ألف سهم "س" مثلًا من شركة الوساطة ثم بيعها في السوق بالسعر الحالي البالغ 10 ريالات، وحينها سيصبح في يدي 10 آلاف ريال.
جاء الأسبوع القادم، وتراجع السهم كما توقعت إلى مستوى 7 ريالات، كل ما سأقوم به الآن هو دخول السوق وشراء الألف سهم مقابل 7 آلاف ريال فقط لأردها لشركة الوساطة لتغطية مركزي المكشوف. وبهذا تمكنت من جني 3 آلاف ريال هي الفارق بين سعري البيع والشراء، وهذا طبعًا قبل احتساب رسوم شركة الوساطة.ولكن ماذا لو أتت رياح السوق بما لا تشتهيه سفني؟ بعبارة أخرى، ماذا لو جاء الأسبوع القادم ووجدت أن السهم ارتفع سعره ولم ينخفض، وارتفاعه لم يكن عاديًا بل لنقل إنه وصل مثلًا إلى ألف ريال للسهم الواحد! حينها سأجد نفسي مطالبًا بشراء ألف سهم مقابل مليون ريال لأغلق مركزي المفتوح، هذا مأزق قد لا أخرج منه سوى إلى السجن أو الإفلاس أيهما أقرب.الآن تخيل أن هناك من نصب لك هذا الفخ من خلال تعمد دفع سعر السهم إلى ذلك المستوى. وهذا بالضبط ما فعله صغار المتداولين في حيتان وول ستريت هذا الأسبوع.كيف أوقع الصغار الكبار في شر أعمالهم؟في وول ستريت وفي غيره من أسواق الأسهم، توجد هناك ممارسة شائعة تقوم بها من آن لأخر عدد من الصناديق الكبيرة بغرض جني المال، وهي بيع أسهم شركات معينة على المكشوف بكميات كبيرة لينخفض سعرها ويفزع حاملوها من صغار المتداولين الذين يبيعون السهم سريعًا ظانين أنهم بذلك يضعون حدًا لخسارتهم، مما يدفع سعر السهم للتراجع أكثر وهو ما يصب في مصلحة الصناديق التي تعيد شراء تلك الأسهم لاحقًا بأسعار أرخص لتغطي مراكزها المكشوفة.في الأسابيع الماضية حاول عدد من الصناديق تنفيذ اللعبة ذاتها على أسهم إحدى الشركات المدرجة بالسوق الأمريكي، ولكن هذه المرة لم يخشى أو يتشرذم صغار المتداولين، بل على العكس سمحوا لها بالصعود إلى الشجرة وحتى لحظة كتابة هذا التقرير يمنعون بعضها من النزول من عليها.في أبريل الماضي كانت شركة ألعاب الفيديو والأجهزة الإلكترونية "جيم ستوب" التي سجلت خسارة قدرها 470 مليون دولار في عام 2019 تعاني كغيرها من الشركات التي تأثرت سلبًا منذ بداية وباء كورونا. فاقم الوباء من معاناة الشركة التي تعتمد على متاجرها الحقيقية الموجودة على الأرض، على إثر اتجاه أغلب المستهلكين إلى التعامل مع التجار الإلكترونيين للألعاب. ومنذ عام 2015 والسهم في انخفاض مطرد قبل أن يصل إلى 3.25 دولار في الأول من أبريل 2020.
بعد حوالي ثمانية أشهر وتحديدا في بداية يناير الجاري قررت "جيم ستوب" تعيين أحد مستثمريها الرئيسيين، "ريان كوهين" – مؤسس شركة أغذية الحيوانات الشهيرة "تشيوي" – واثنين من مساعديه في مجلس إدارة الشركة. انضمام "كوهين" إلى مجلس الإدارة كان سببًا في تفاؤل كثير من المستثمرين الأفراد بمستقبل الشركة خلال الفترة القادمة، وهو ما أدى إلى ارتفاع سهم "جيم ستوب" بأكثر من 50% بعد يومين من تعينه، ليصل إلى 31 دولارًا.إلى الآن تبدو القصة طبيعية جدًا، ولكن أكثر الفصول الإثارة هي ما حدث بعد ذلك.في نفس الوقت الذي تحمس فيه المستثمرون الأفراد لمستقبل سهم "جيم ستوب" بعد انضمام "كوهين"، قرر عدد من صناديق التحوط في وول ستريت المراهنة على تراجعه، لاعتقادهم أن المستثمرين الأفراد الذين تحمسوا للسهم ساذجين لأن فرحتهم بانضمام "كوهين" أعمتهم عن الحالة المهترئة لأساسيات للشركة. وعلى هذا الأساس قامت تلك الصناديق باقتراض كميات ضخمة من سهم "جيم ستوب" وبيعها على المكشوف على أمل أن ينخفض سعره بعد أن ينفض الجميع من حوله.شباب الإنترنت يحاصرون حيتان وول سريتلسوء حظ تلك الصناديق كان هناك من يقف لهم بالمرصاد. على موقع "ريديت" الشهير يوجد هناك تجمع أو " subreddit" يطلق عليه "وول ستريت بيتس" (WallStreetBets). هذا التجمع الذي تزايد أعضائه بشكل كبير جدا خلال أيام ويضم حتى لحظة كتابة هذا التقرير أكثر من 5.5 مليون عضو معظمهم من المتداولين الأفراد قرر تنظيم صفوفه والقيام بشكل جماعي بوضع تلك الصناديق في ورطة.بدأ الأمر يتحول إلى حرب صريحة بعد أن كشف صندوق "ميلفن كابيتال" عن مراهنته على انخفاض سعر سهم "جيم ستوب". في هذه اللحظة قرر متداولي "وول ستريت بيتس" الانقضاض على السهم وشراء كل الكميات المتاحة منه مما ساهم في ارتفاع سعره بأكثر من 1700% على مدار يناير الجاري فقط وحتى أول أمس الأربعاء، لتقفز القيمة السوقية للشركة من ملياري دولار فقط في بداية العام إلى 24 مليار دولار.