أصلح قلبك تصلح لك جميع أمورك
انظرْ اليومَ إلى قلبِكَ، هل تَرى قد خالطتهُ الشُّبهاتُ؟، أو تَرى قد أمرضتهُ الشَّهواتُ؟،
هل تعظيمُ اللهِ -تعالى- فيه هو الأساسُ؟، أم الهوى وحبُّ الدُّنيا وكلامُ النَّاسِ؟،
فطَّهرْ قلبَكَ، فإنَّكَ تعلمُ ما فيه من الأمرِ الدَّفينِ،
ولا يُغرنَّكَ مدحُ وثناءُ الآخرينَ، فإننا في زمنٍ قد كَثُرت فيهِ الفِتنُ، وعَظُمتْ فيه المِحنُ....
الحديثُ عن القلوبِ ليسَ فقط حديثاً عن المشاعرِ والعواطفِ والأحاسيسِ، أو حديثاً عن الحُبِّ والهَيامِ والشَّوقِ الحبيسِ،
إنما هو حديثٌ أكبرُ من ذلكَ وأعظمُ، إنَّه حديثٌ عن العضوِ الوحيدِ في جِسمكَ الذي ينظرُ اللهُ -تعالى- إليهِ،
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"، فيا اللهُ! ماذا عسى أن ينظرَ اللهُ -تعالى- في قلوبِنا؟، أهو الصَّلاحُ والإيمانُ، أو الفسادُ والطُّغيانُ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ)[البقرة:220].
الحديثُ عن القلبِ، هو الحديثُ عن مَلكِ الأعضاءِ، الذي في صلاحِه الفوزُ والفلاحُ،
وفي فسادِه الخَسارُ والضَّياعُ، ففي الدُّنيا: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، وفي الآخرةِ: (يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89].
ذلكَ بأنَّ القلبَ هو محلٌ لأعظمِ وأكملِ العباداتِ،
فهو محلُ الإخلاصِ، واليَقينِ، والتَّفكُّرِ، والخُشوعِ، والمُراقبةِ، والتوكُّلِ، والمحبَّةِ، والرَّجاءِ، والخَوفِ، والصَّبرِ، والرِّضا، والشُّكرِ، والحَياءِ، والتَّوبةِ،
هذه العباداتُ التي رفعتْ أبا بكرٍ الصِّديقِ -رضيَ اللهُ عنه- إلى مَنزلةٍ عَظيمةٍ في الأمَّةِ،
حتى قالَ بَكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزني -رحمَه اللهُ-: "ما فَضَلَ أَبو بَكرٍ النَّاسَ بكثرةِ صَلاةٍ ولا بَكثرةِ صِيامٍ، ولكنْ بشيءٍ وَقرَ في قَلبِه".
فإيَّاكَ أن تكتمَ الشَّرَّ في قلبِكَ، وتُظهرَ الخيرَ بلسانِكَ؛ فهذه استهانةٌ بنظرِ اللهِ -تعالى- إلى قلبِكَ، واستهزاءٌ بعلمِ اللهِ -تعالى- بما في نفسِكَ،
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة:204-205].
اقرأ وتدبَّرْ كلامَ اللهِ -تعالى- وهو يُعاملُ النَّاسَ بما في قلوبِهم؛ تأكيداً على أن عاقبةَ الأمورِ بما في القلبِ مكنونٌ، وليسَ بما يَظهَرُ للنَّاسِ بالعيونِ،
فها هو يُخاطبُ أصحابَ بيعةِ الرِّضوانِ:
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح:18]،
وها هو يُخاطبُ نبيَّهُ في أَسرى بدرٍ:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنفال:70]،
وها هو يُخاطبُ رسولَه في المنافقينَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)[النساء:63]،
فالقلبَ القلبَ.
إيَّاكَ وأن ينظرَ اللهُ -تعالى- إلى قلبِكَ وفيه بُغضٌ لأهلِ الإيمانِ، وإيَّاكَ والحسدَ لهم والبُهتانَ، فقد أوصاكَ بهم خيراً،
"لا تَحاسدُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَدابرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْوانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم: لا يَظلِمُه، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا، ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، بِحسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المُسْلِمَ، كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ"، "لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، بل حتى يُحاسبُ على ما في قلبِهِ من الشَّرِّ للمسلمِ ولو لم يستطعْ تحقيقَه، قَالَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ، قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"،
فهل رأيتُم كيفَ اجتمعَ عليه ألمُ القتلِ والنَّارِ بسببِ ما كانَ في قلبِه؟
أيُّها الحبيبُ: انظرْ اليومَ إلى قلبِكَ، هل تَرى قد خالطتهُ الشُّبهاتُ؟، أو تَرى قد أمرضتهُ الشَّهواتُ؟، هل تعظيمُ اللهِ -تعالى- فيه هو الأساسُ؟، أم الهوى وحبُّ الدُّنيا وكلامُ النَّاسِ؟، فطَّهرْ قلبَكَ، فإنَّكَ تعلمُ ما فيه من الأمرِ الدَّفينِ، ولا يُغرنَّكَ مدحُ وثناءُ الآخرينَ، فإننا في زمنٍ قد كَثُرت فيهِ الفِتنُ، وعَظُمتْ فيه المِحنُ،
قَالَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ-: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"،
لا إلهَ إلا اللهُ .. أهكذا القلوبُ تتقلَّبُ؟، أهكذا تتغيَّرُ وتتصلَّبُ؟
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ *** فَاحْذَرْ عَلَى القَلبِ من قَلبٍ وتَحويلِ
اللهم يا مُقَلِبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دينِكَ، ويا مُصَرِّفَ القلوبِ صَرِّفَ قُلُوبَنا على طاعتِكَ.
اللهم أصْلِحْ لنا دينَنا الذي هو عِصْمَةُ أَمرِنا، وأصْلِحْ لنا دنيانا التي فيها مَعَاشُنا، وأصلحْ لنا آخرتَنا التي فيها مَعَادُنا،
واجْعَل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجْعَل الموتَ راحةً لنا مِنْ كلِّ شرٍ.
اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وفرِّج كربَهم، وأرغدْ عيشَهم، وارفعْ بلاءَهم، وأصلح قادتَهم، واجمعهم على الكتابِ والسنةِ يا ربَّ العالمينَ.
مواقع النشر (المفضلة)