وصف المستثمر الأمريكي الشهير "وارن بافيت" عقود المشتقات المالية باعتبارها "أسلحة الدمار الشامل المالية". وقبل أن تمضي سنوات ست صدق كلام الرجل، حيث تسببت المشتقات المالية في وقوع أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة، والتي جعلت الأسواق المالية أقرب ما تكون إلى حافة الهاوية.الآن مع "هوانج" يكرر التاريخ نفسه وإن كان على نطاق أصغر. تعتمد استراتيجية صندوق التحوط "أركيجيوس كابيتال مانجمنت" البالغة أصوله نحو 10 مليارات دولار والمدار من قبل "هوانج" على التداول في الشركات المدرجة بالبورصة في أمريكا وأوروبا والصين واليابان باستخدام نوع من عقود المشتقات يطلق عليه اسم "عقود الفروقات" Contracts For Difference (CFDs).هذه العقود هي عقود تسمح لـ"هوانج" بالرهان على اتجاه أسعار الأسهم دون أن يبيعها أو يشتريها ومن غير أن تنكشف هويته! ولكن كيف يمكن هذا؟ ببساطة كل ما على "هوانج" فعله هو اختيار أي سهم يعجبه في السوق للمراهنة عليه، وحينها يبدأ دور البنوك التي تعمل كوسيط له، حيث تشتري الأسهم بالنيابة عنه وتحتفظ هي بملكيتها، فيما يتحمل "هوانج" نفسه مخاطرها الاقتصادية.في إطار هذا العقد يلتزم "هوانج" بدفع هامش من قيمة الصفقة في صورة نقدية للبنك، والذي يقوم بدوره بتمويل باقي الصفقة. ونظرًا لأن هذه العقود تتم مقاصتها بشكل يومي لتسوية الأرباح والخسائر، كان على "هوانج" الالتزام بتوفير نوع آخر من الضمانات يعرف باسم "هامش التباين" أو "Variation Margin"."هامش التباين" هو حساب فيه أموال أخرى غير تلك التي دفعها "هوانج" كهامش للصفقة، يفتحه لدى البنك الوسيط بحيث يغطي أي خسائر قد يتكبدها مركزه المفتوح. هذه الأموال بمجرد أن تنخفض دون حد معين يعرف بهامش الصيانة (Maintenance Margin) يجد "هوانج" نفسه في مواجهة ما يسمى بالـ Margin Call أو طلب رفع الرصيد. هذا في حال تكبد المركز خسائر، أما لو كان الحال هو العكس، سيدفع البنك المال لـ"هوانج".رغم خطورتها الواضحة إلا أن عقود الفروقات كانت بها ميزة ساهمت في شعور البنوك التي تطوعت للعمل كوسيط لحساب "هوانج" بمزيج من الاطمئنان والثقة، وهي امتلاك الوسيط الحق في تسييل المركز بالإجبار وبيع كل شيء باعتباره المالك الرسمي، وذلك في حال عدم تمكن "هوانج" من تلبية طلب رفع رصيده بحساب هامش التباين.كيف انهار كل شيء؟بدعم من البنوك الكبرى دخل "هوانج" من خلال صندوقه "أركيجيوس كابيتال مانجمنت" في رهانات كبيرة على أسهم شركتي الإعلام الأمريكيتين " فاياكوم سي بي إس" و"ديسكفري كوميونيكيشنز" وشركة البيع بالتجزئة البريطانية "فارفيتش" بالإضافة إلى الشركات الصينية الأربعة "جي إس إكس تيتشيدو" و"تينسنت ميوزك" و"بيدو" و"آي كيو آي واي آي" العاملة في مجالات التعليم والموسيقى والبحث والترفيه على التوالي.في البداية مضت الأمور على نحو ممتاز، وحقق "هوانج" ومعه البنوك التي تدعمه في مغامراته مقابل حصولها على رسوم كبيرة مكاسب ممتازة إلى أن انتهى الأمر على النحو المعتاد، بعد أن جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفنهم خلال الأسابيع الأخيرة. أكثر الأسهم التي كان يراهن عليها "هوانج" انخفض سعرها ماضية في اتجاه معاكس لمصلحته مما وضعه في مواجهة ما يسمى بطلب رفع رصيد الهامش من أجل تغطية خسائره المستمرة في الازدياد.في الخامس عشر من فبراير وصل سعر سهم شركة "فارفيتش" إلى 60 يورو وهو أعلى مستوى في تاريخه، ولكن على مدار الأيام اللاحقة أخذ السهم اتجاهاً هبوطياً واضحاً إلى أن فقد ما يقرب من نصف قيمته في السادس والعشرين من مارس. أما سهم شركة خدمات البحث الصينية فهبط من 277 دولارا في 17 مارس إلى 204 دولارات فقط في 25 مارس.الضربة الكبرى جاءت من شركة الإعلام الأمريكية "فاياكوم سي بي إس". تسببت رهانات "هوانج" العالية على السهم في تجاوز سعره لحاجز الـ100 دولار لأول مرة في تاريخه، حيث بلغت قيمة مركزه في هذه الشركة نحو 10 مليارات دولار، مما جعل البنوك الوسيطة عنه (بما أنه مجرد مراهن لا يملك شيئًا) أكبر مساهم في الشركة.ولكن في الثاني والعشرين من مارس الماضي أعلنت "فاياكوم" خبرا صدم "هوانج" وحلفاءه، حيث كشفت الشركة عن عزمها بيع ما يوازي 3 مليارات دولار من الأسهم والديون القابلة للتحويل، وهكذا بدأت الحفلة! على مدار اليومين التاليين لذلك الإعلان تراجع سهم "فاياكوم" بأكثر من 30% مما تسبب في حصار "هوانج" في الزاوية، بعد أن سارعت إليه البنوك طالبة منه رفع رصيد حساب هامش التباين.في هذه المرحلة كانت الصورة شبه واضحة، الموج أعلى من "هوانج" ولن يستطيع تغطية الهامش، ورغم ذلك كانت البنوك مترددة في التخلي عنه، لدرجة أن بعضهم ترجاه أن يبدأ في تقليص حجم مراكزه ليضع حدًا لخسائره ولكنه رفض وصمم على موقفه، فيما لم تنبس البنوك ببنت شفة أمامه لأن هذا النوع من العملاء نادرًا ما يرغب أحد في مضايقته.الجمعة الدامية!.. الكل يقفز!في ظل ضخامة قيمة مراكز "هوانج" التي تشير بعض التقديرات إلى أنها تقترب من 100 مليار دولار كان على البنوك التفكير في القفز من السفينة قبل فوات الأوان. وفي الخامس والعشرين من مارس اجتمع ممثلون عن البنوك المتورطة مع "هوانج" وصندوقه بواسطة من "كريدي سويس" على أمل أن يتمكنوا من التوصل لتفاهم يمكنهم من تنظيم عملية التخارج بأقل قدر من الخسائر، ولكن فشل الاجتماع وقرر كل واحد منهم النجاة بنفسه.وهنا بدأت الفوضى في السوق. في نهاية الأسبوع الماضي وشاهدنا مجموعة من أكبر البنوك في العالم قررت فجأة بيع حيازات ضخمة تقترب قيمتها من 30 مليار دولار إجمالًا في شركات كبيرة ووازنة في السوق دون أي تنسيق فيما بينها، ليصاب الجميع بالذعر ويبدأ الكل في التساؤل ما الذي يحدث بالظبط؟الجمعة الموافق السابع والعشرين من مارس كان يومًا لا ينسى! في صباح ذلك اليوم اتصل "جولدمان ساكس" بعدد من صناديق التحوط التي يتعامل معها عارضًا عليها **** حيازاته من الأسهم التي يمتلكها بالنيابة عن "هوانج" منوهًا إلى أنه سيعطي الأولوية لمن يطلب أكبر كمية. وفي نفس اليوم باع البنك جزءًا من حيازاته من بينها على سبيل المثال 100 مليون سهم من "تينسنت ميوزك" الصينية مقابل 1.8 مليار دولار. وفي وقت لاحق من نفس اليوم باع "مورجان ستانلي" 36 مليون سهم آخر من نفس الشركة مقابل 600 مليون دولار.


وفي ألمانيا تمكن "دويتشه بنك" يوم الجمعة أيضًا من بيع ما قيمته 4 مليارات دولار من حيازاته التي اشتراها لحساب الصندوق المتعثر. وهو نفس ما فعله كل من "كريدي سويس" و"نومورا" اللذين كشفا مؤخرًا عن أن خسائرهما المرتبطة بهذه الفوضى تقترب من 4 مليارات دولار للبنك السويسري وملياري دولار للبنك الياباني.هذا ببساطة ما حدث.. وفي النهاية كل يغني على ليلاه! الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة تقول إنها تراقب الوضع باهتمام بالغ، فيما تحسب البنوك الكبرى خسائرها وتحاول تضميد جراحها، أما وسائل الإعلام فوجدت لنفسها قصة تتحدث فيها.ولكن كالعادة في مثل هذه الأزمات هناك منسيون تدوسهم أقدام كبار اللاعبين في السوق ولا ينتبه إليهم أحد رغم أنهم الضحية الأبرز وربما الوحيدة، والحديث هنا عن صغار المتدوالين الذين خسروا أموالهم وربما صحتهم النفسية بسبب التقلبات غير المبررة للأسهم محل المراهنة. ويبقى السؤال، هل سيبقى هؤلاء دائمًا بلا بواكٍ لهم؟