يشهد السوق تحركات مكثفة بيعًا أو شراءً لسهم شركة بعينه، ليس بسبب تغير واضح في أسسه، ولكن بسبب انطلاق "شائعة" من مصدر ما، حول نوايا شركة للتوسع، أو صفقة استحواذ وشيكة، أو نوايا مجلس إدارة للاستقالة.
ولأن سوق الأسهم بيئة سريعة الاستجابة للمتغيرات فإن هذه الشائعات "غير المؤكدة" تتسبب كثيرًا في تحركات حادة وفورية في الأسعار، غالبًا ما تكون مؤقتة، مما يثير تساؤلات حول كفاءة السوق.
استجابة سريعة قبل التأكد
والشاهد على هذا التأثير السريع ما رصدته دراسة واسعة حللت أكثر من 1,084 شائعة استحواذ، حيث أكدت الدراسة أن ردة فعل السوق تجاه الشائعات ليست هامشية، بل حادّة وفورية.
وتشير الدراسة إلى أن التداولات والعوائد تقفز فوق مستواها المعتاد مباشرة بمجرد نشر الشائعة في الصحف أو المواقع المالية أو حتى بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مما يوضح قدرة هذه المعلومات غير المؤكدة على تسعير السوق بسرعة تتجاوز سرعة تكشف الحقائق الرسمية.
ولهذا السبب، غالبًا ما تستجيب الأسعار للشائعات غير المؤكدة بهذه السرعة، نتيجة التفاعل النشط للمضاربين والمستثمرين الذين يركزون على الآفاق قصيرة الأجل، ما يجعل الشائعة بمثابة "معلومة سعرية" تستوجب التصرف الفوري.
وتُظهر البيانات أن العوائد والتداولات ترتفع بصورة "انفجارية" حول يوم نشر الشائعة، إذ يسجل حجم التداول ارتفاعًا هائلًا، يبلغ 80-220% في بعض الحالات، مقارنة بمتوسط الأيام السابقة للشائعة، وذلك وفقًا لطبيعة عمل الشركة ومدى قوة مصدر الشائعة وطبيعة الأخيرة نفسها.
ويتضح من هذا الارتفاع الكبير في التداول أن المستثمرين -خصوصًا من يعملون على المدى القصير- يتعاملون مع الشائعة على أنها معلومة ذات قيمة، حتى وإن كانت غير مؤكدة، ما يؤدي إلى تسعيرها سريعًا في السوق قبل أن تتضح صحة الخبر أو زيفه لاحقًا.
ويشير الباحث في أسواق المال "دانيال شميت" إلى أن هذه الحركة السريعة في السوق تؤكد التأثير الكبير لـ"الاتصال الشخصي" بين المتداولين، حيث إن من سبل الانتشار الرئيسي للشائعات هو من متداول لآخر، فقرابة 45% ممن تصرفوا بناء على شائعة في سوق الأسهم سمعوا عنها لأول مرة من متداول آخر.
شائعات مؤثرة
ولعل حالة سهم "يونيفجن" (Univision Communications) توضح تأثير الشائعات الكبير على السوق، حيث ارتفع بنسبة 30% خلال أسبوعين فقط بسبب شائعات الاستحواذ عام 2005، قبل أي إعلان رسمي من الشركة أو الجهات التنظيمية.
ففي ديسمبر 2005، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريرًا يشير إلى وجود “تكهنات” حول احتمال بيع أو اندماج شبكة "يونيفجن"، التي تُعد أكبر شبكة إعلامية ناطقة بالإسبانية في الولايات المتحدة.
ورغم أن هذه الشائعات لم تكن مدعومة بمصادر مؤكدة، فإنها أثارت موجة مفاجئة من التفاؤل بين المستثمرين، وخلال أسابيع قليلة فقط، قفز سهم Univision بنسبة وصلت إلى 30%، ما مثّل استجابة قوية وغير متناسبة مع طبيعة المعلومة غير المؤكدة نفسها.
والارتفاع في حالة "يونيفيجين" جاء للعديد من الأسباب، ومن بينها قوة مصدر الشائعة (وول ستريت جورنال)، وقوة العلامة التجارية كونها الشبكة الأكبر باللغة الإسبانية، وجعل منها ذلك هدفًا محتملًا لشركات إعلامية كبرى تسعى للتوسع، فضلًا عن توقيت الشائعة، حيث جاءت في فترة كان فيها سوق الإعلام الأمريكي يشهد اندماجات متتالية، ما عزز قابلية المستثمرين لتصديق الشائعة.
وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن عدم تأكد أو وجود مصادر للشائعة لا يمنع الكثير من المستثمرين من اللحاق بالسوق، شراءً أو بيعًا، بل يكتفون بإشارة أولية تدفعهم للتحرك خوفًا من "فوات الفرصة" مما يخلق موجة شراء سريعة ترفع السعر -أو تخفضه- حتى قبل التحقق من صحة الشائعة .
والشاهد أن الشائعات كثيرًا ما يتبعها حالة تراجع حادة للسهم الذي ارتفع بعد رواج شائعة إيجابية عنه إذا ثبت أنها زائفة، حيث تكشف الدراسات أن جزءًا كبيرًا من القفزة السعرية مؤقت، فمعظم الشائعات لا تتحقق، فعلى سبيل المثال فنحو 70–90% من شائعات الاستحواذ لا تؤدي فعليًا إلى عروض رسمية فضلًا عن الوصول لمرحلة الاندماج على الأرض.
ولهذا يعتبر البعض أن الشائعات تؤدي إلى ظهور "فقاعات صغيرة" ومؤقتة في السوق، وأن الخاسرين منها هم هؤلاء المضاربون الذين يلتحقون بالسهم في مراحل متأخرة نسبيًا فيشهدون تراجعه أو هؤلاء الذين يطيلون الاحتفاظ بالسهم لحين تكشف زيف الشائعة.
معلومات مضللة
وفي نوفمبر 2022، عانت "وول ستريت" من حادثة لافتة في كيفية تفاعل الأسواق مع الأخبار المضللة، حيث بدأت الأزمة عندما انتشرت على منصة تويتر (إكس حاليًا) تغريدة صادرة عن حساب بدا وكأنه الحساب الرسمي لشركة إيلي ليلي (Eli Lilly)، وهي إحدى أكبر شركات الأدوية العالمية، تعلن فيها أن "الأنسولين أصبح مجانيًا".
وعلى الرغم من أن التغريدة كانت مزيفة وبغير أساس، فقد اكتسبت سرعة انتشار هائلة، حيث يُعد الأنسولين دواءً أساسيًا لملايين المرضى، كما أن سعره المرتفع في الولايات المتحدة يمثل نقطة جدل مستمرة بما ساهم في سرعة انتشار الشائعة.
كانت النتيجة المباشرة للتغريدة "المزيفة" هي هبوط حاد في سعر سهم إيلي ليلي بنسبة 4.37% في نفس اليوم، حيث تعمل الشركة بالأساس في مجال أدوية السكري وإنقاص الوزن، وهي نسبة تعتبر كبيرة جدًا بالمقاييس اليومية لسهم ينتمي إلى قطاع "دفاعي" وثابت نسبيًا مثل قطاع الأدوية.
والشاهد هنا هو أن المستثمرين لم ينتظروا التحقق الرسمي من صحة الخبر، وخلال دقائق معدودة أعادت الأسواق تسعير السهم، وكأن الشركة قد أعلنت بالفعل عن تخفيض ضخم ومفاجئ في أحد أهم مصادر دخلها.
ويمكن القول إن هذا السلوك الجماعي يوضح كيف تتحرك الأسواق في حالة انتشار الخوف والذعر، حيث تستجيب حتى قبل التأكد من صحة الخبر، ما يعكس ميلها لتسعير "أسوأ سيناريو متوقع" عندما يتعلق الأمر بمخاطر مفاجئة.
بعد انتشار الخبر، سارعت شركة الشركة بإصدار بيان يوضح أن التغريدة مزيفة وأن الحساب ليس تابعًا لها، لكن الشركة تكبدت خسائر مؤقتة في القيمة السوقية قُدرت بمليارات الدولارات، تحملها المتداولون الذين باعوا السهم سريعًا، لا سيما أنه استعاد مستوياته السابقة بعد أسبوعين فحسب.
التأكد قبل التحرك
وهنا يجب تذكر شائعة حادثة وقوع انفجار قرب مبنى وزارة الدفاع (الحرب) الأمريكية (البنتاغون) في 2003، حيث انتشرت صورة لانفجار غير حقيقي قرب مبنى البنتاغون في مايو 2023، وكانت من أوائل الصور التي تم توليدها بالذكاء الاصطناعي وآليات التزييف العميق بشكل احترافي نوعًا ما.
ولأهمية الصورة وخطورتها فإنها أثارت ذعرًا فوريًا في الأسواق العالمية التي تتسم بالحساسية الشديدة للأحداث الجيوسياسية، حيث سجل مؤشر "داو جونز" الصناعي هبوطًا حادًا بلغ مئات النقاط في غضون دقائق معدودة، ليس فقط بسبب بيع المستثمرين الأفراد، بل لتفاعل خوارزميات التداول الآلي فورًا مع الكلمات المفتاحية المتعلقة بـ"انفجار" و"هجوم"، مما حول الشائعة إلى حركة أسعار حقيقية وملموسة.
ويمكن القول إن هذا التفاعل السريع للخوارزميات هو ما أظهر العلاقة الخطيرة بين التكنولوجيا المضللة وما تولده من شائعات وقرارات التسعير اللحظية، فرغم أن الفترة الزمنية التي استغرقها المسؤولون وقنوات الأخبار الموثوقة لنفي الخبر وتأكيد زيف الصورة كانت قصيرة (نحو 10 دقائق)، فإنها كانت كافية لإحداث خسائر مؤقتة بمليارات الدولارات من القيمة السوقية لعشرات الشركات.
ويتأكد أن السوق يُسعر الشائعة دومًا خوفًا من "فوات الفرصة"، حيث يكون لها تأثير فوري في حجم التداول وأسعار الأسهم، ولأن الدراسات تصل بحجم الشائعات التي يتضح زيفها لأكثر من 90% فعلى المتداول أن يتجنب التحرك قبل التأكد من صحة الشائعة وتحولها لمعلومة موثوقة، وإلا سيعاني من خسائر عانى منها الكثيرون بسبب التحرك السريع بدون تأكد.
المصادر: أرقام- وول ستريت جورنال- فوربس- ميديام- دراسة " Stock Market Rumors and Credibility"-
المصدر...






رد مع اقتباس
مواقع النشر (المفضلة)