جابر عثرات الكرام - قصة نُبلٍ وجُودٍ ووفاء.
من كتاب (المستجاد من فعَلات الأجواد) للتنوخي


كان في أيام سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم رجل يقال له: خزيمة بن بشر، من بني أسد بالرقة؛
وكانت له مروءة ونعمة حسنة وفضل وبرٌّ بالإخوان، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم
فواسَوْه حيناً ثم ملّوه، فلما لاحَه تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها: يا بنت عم! قد رأيت من إخوتي تغيراً
وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت. وأغلق بابه عليه، وأقام يتقوّت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً في أمره.


وكان عكرمة الفياض الربعي والياً على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذِكرُ خزيمة بن بشر،
فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف، فأغلق بابه ولزم بيته،
فقال الفياض - وإنما سمي بذلك لأجل كرمه - : فما وجد خزيمةُ بن بشر مواسياً ولا مكافياً؟
قالوا: لا. فامسك، ثم لما كان الليل عمِد إلى 4 آلاف دينار فجعلها في كيس، ثم قال للجارية:
أسرجي لي دابتي وخرج سراً من أهله فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة
فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فدقه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس
وقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلاً فوضعه، ثم أمسك لجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جُعلتُ فداك.
قال: ما جئتك هذه الساعة وأنا أريد أن تعرفني. قال خزيمة: فما أقبلُ أو تخبرَني من أنت.
قال: أنا جابرُ عثراتِ الكرام. قال: زدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته
فقال لها: أبشري فقد أتى االله بالفرج والخير، ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فأسرجي.
قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق.


ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه فأُخبرت بركوبه منفرداً فارتابت لذلك،
فشقت جيبهاً ولطمت خدها: فلما رآها على تلك الحال قال لها: ما دهاك يا بنت عم. قالت: غدرت يا عكرمة بابنة عمك.
قال وما ذاك؟ قالت: أميرُ الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله!
واالله ما يخرج إلا إلى زوجة أو سَرِيّة قال: لقد علم االله أني ما خرجت إلى واحدة منها. قالت:
فأخبرني فيم خرجت؟ قال: يا هذه! لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد قالت: لا بد.
قال: فاكتميه إذاً. قالت: أفعل. فأخبرها القصة على وجهها، وما كان من قوله ورده عليه،
ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك؟ قالت: لا، فإن قلبي قد سكن إلى ما ذكرت.


ثم أصبح خزيمة فصالحَ الغرماءَ وأصلح من حاله. ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين،
فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه وكان مشهورَ المروءة، وكان سليمان به عارفاً، فأذن له،
فلما دخل عليه وسلم بالخلافة، قال: يا خزيمة، ما أبطأك عنا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟
قال: ضعفي. قال فيم نهضت؟ قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين بعد هدأة الليل إلا ورجل طرق بابي فكان منه كيت وكيت،
وأخبره القصة من أولها إلى آخرها فقال له: هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين وذلك لأنه كان متنكراً،
وما سمعت منه إلا "جابر عثرات الكرام". قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته،
وقال لو عرفناه لأعناه على مروءته ثم قال: علي بقناة فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض.


فخرج خزيمة طالباً للجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فلما سلم عليه سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد
فنزل خزيمة في دارة الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسب فحوسب، فوجدت عليه فضول كثيرة فطلب خزيمةُ بأدائها
فقال: ما لي إلى شيء منها سبيل. قال: لا بد منها. قال: ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع، فأمر به إلى الحبس،
ثم بعث إليه يطالبه فأرسل إليه: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبل بالحديد وضيق عليه
وأقام كذلك شهراً أو أكثر، فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه ضره فجزعت واغتمت لذلك،
ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي: عندي نصيحة.
فإذا طُلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمةَ بنِ بشر، فإذا دخلتِ عليه فسليه أن يخليك فإذا فعل فقولي له:
ما كان هذا جزاءَ جابرِ عثرات الكرام منك، كافأته بالحبس والضيق والحديد. ففعلت ذلك،
فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم.