وَدَاعُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَنَا جَسَدًا لا رُوحًا




الحمدُ لله جَعَلَ الْموتَ وَسِيلَةً لِلقَائِهِ, أَشْهَدُ ألَّا الهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ في عَلْيَائِهِ, وَأَشهَدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ اخْتَارَهُ اللهُ على سَائِرِ أَوليائِهِ, صَلَواتُ رَبِّي وسلامُهُ عَليهِ وَعلى آلِهِ وأَصحَابِهِ. أمَّا بعدُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤمِنينَ: الحَدِيثُ عن رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأسِرُ القُلُوبَ, ويُجْرِيَ الْمَدَامِعَ! وَيُقَوِّيَ العزائمَ! فَمَولِدُه نُورٌ, وَهِجْرَتُهُ عِزٌّ لِلإسلامِ, وَفي وَفَاتِهِ اكْتِمَالٌ لِبَدْرِ الإسلامِ وَعَزَاءٌ الأَنَامِ!
أَلا تَعْلَمُونَ: أنَّ تلكَ الأَحدَاثِ كُلِّها حَدَثَتْ في مثلِ شهرِكُمْ هذا؟ وَقَرِيبًا مِنْ يَومِكُمْ هَذا؟
اللهُ أكبرُ عبادَ اللهِ: لقد اختارَ اللهُ مُحمَّداً لِيكونَ لِلعالَمِينَ بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَنزَلَ عليه:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ). فَشَمَّرَ بِكُلِّ عَزمٍ وإتمَامٍ, ثَلاثَاً وعِشريِنَ عامَاً! لاقى فيها الْمَتَاعِبَ والْمَشَاقَّ, فَشَاءَ اللهُ تَعَالَى أنْ يَجمَعَ بَينَ يَدَيهِ الْمُسلِمينَ على صَعِيدِ عَرَفَاتَ, فَأَلْقَى عليهم نَظرَةً أَخِيرَةً بعدَ ما أَنزَلَ اللهُ قولَهُ:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا). حينَها بَكى ابنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وَأرضَاهُ وَقَالَ:(واللهِ لَيسَ بَعدَ الكَمَالِ إلَّا النُّقصَانُ). فَقَدْ كانَ الْمُصْطَفَى يُرَدِّدُ على الحُجَّاجِ: «لِتَأْخُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ, لِعَلِّي لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا». مَعَاشِرَ الْمُؤمنينَ: الحَدِيثُ عن وَفَاةِ نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ عِظَاتٌ وعِبَرٌ، وَشَحْذٌ لِلعَزَائِمِ والهِمَمِ, وتَثْبِيتٌ على الطَّرِيقِ الأَقْوَمِ! ألَمْ تَعْلَمُوا: أنَّهُ بِمُجَرَّدِ نَبَأِ وفاتِهِ خَرَجَ أُنَاسٌ عن الدِّينِ! وَرَفعَ البَاطِلُ رَأسَهُ! وطَمِعَ الشَّيطانُ في القَومِ! فَنَتَعَلَّمْ قَولَ اللهِ حَقًّا:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ). وَقَولَ نَبِيِّنَا صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».
لَقَدْ وَدَّعَ نَبِيُّنَا صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الكَعبَةَ الْمُشَرَّفَةَ، وَعَادَ إلى الْمَدِينَةِ النَّبَويَّةِ، لِتَبكي الْمَدِينَةُ لا مِن الفَرَحِ، ولَكنْ حَزَنَاً لِمَا حلَّ بِهِ من مَرَضٍ وَتَعَبٍ! فَقَدْ أَخَذَهُ وَجَعٌ فِي رَأْسِه وحَرَارَةٌ اشتَدَّتْ عليهِ! فَثَقُلَ بِه الْمَرَضُ فَانْتَقَلَ إلى بيتِ عائشةَ رَضِي اللهُ عنها فَمَكَثَ عِنْدَها, وفي يَومٍ وَجَدَ نَشَاطًا فَخَرَجَ إلى النَّاسِ فصلَّى بهم وَخَطَبَهُم وَقَالَ: «عَبْدٌ خَيَّرَهُ الله بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ». ثمَّ اشتَدَّ الوجعُ بِرَسُولِ اللهِ, فَكَانَ كُلَّما أفاقَ قالَ: (هَلْ صَلَّى النَّاسُ؟ هَلْ صَلَّى النَّاسُ؟).وفي فجرِ الاثنينِ الثَّانيَ عَشَرَ من شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ والصَّحَابَةُ قَدْ اصطفُّوا خلفَ أبي بكرٍ يُصَلُّونَ إذْ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ السِّترَ عن غُرفتِهِ وبَرَزَ للنَّاسِ فَكَادُوا يُفتَنُونَ عن صَلاتِهِم فَتَبَسَّم فَرِحَاً وعادَ إلى مَنزلِهِ, وَفي الضُّحى جاءَتُهُ سَكَرَاتُ الْمَوتِ فَكانَ يُدخِلُ يَديهِ في الإناءِ ويُرَدِّدُ: اللهمَّ أَعنِّي على سَكَرَاتِ الْمَوتِ ويقَولُ: «لَعْنَةُ الله عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لا يجتمعُ دِينَانِ بأرضِ العَربِ». لا إله إلا اللهُ إنَّ للموتِ لَسَكرَاتٌ، بَلِ الرَّفِيقُ الأَعْلَى، مَعَ الذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. الصَّلاةَ الصَّلاةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم حتى جَعَلَ يُلَجْلِجُها في صَدْرِه وما يَفِيضُ بِهَا لِسَانُه. لَقَد تُوفِّيَ رسولُ الله في بَيتِ عَائِشَةَ وفي يَومِها وبينَ سَحْرِها بَعْدَ أَنْ فَرَغَ من سِّواكِهِ وَضَعَ يَدَهُ ثمَّ قَالَ: في الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثُمَّ قَضَى رَسُولُ الله! قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبَّاً دَعَاهُ! يَا أَبتَاهُ! جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأْوَاهُ! يَا أَبَتَاهُ, إِلَى جبْريلَ نَنْعَاهُ! وَعَائِشَةُ تَبْكِي وَتَخرُجُ وهيَ تَقُولُ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ، مَاتَ خَيرُ خَلقِ اللهِ، فَيُقَابِلُها عُمَرُ, وَيَقُولُ: واللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ، ولا يَمُوتُ حتى يَقطَعَ أَيديَ الْمُنَافِقِينَ وَأَرجُلَهُم.
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ على أهلِها, وَضَاقَتْ عليهم أَرجَاؤهَا, وَانْدَهَشَ النَّاسُ مِنْ هَولِ الخَبَرَ! حتى جاءَ أبو بكرٍ فَدَخَلَ على عائشةَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُسَجًّى فَكَشَفَ عن وجْهِهِ وأَكَبَّ يُقَبِّلُهُ ويَبْكِي ويقولُ: بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ, إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ رَاجِعُونَ طِبْتَ حيَّاً و ميِّتاً فَصَعَدَ الْمِنبرَ, فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عليه وقَالَ: مَنْ كَانَ يَعبُدُ مُحمَّداً فإنَّ مُحمَّداً قد مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يَمُوتُ ثُمَّ قَرَأَ:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ). فبدأَ الناسُ يُرَدِّدُونَ الآيةَ وكأنَّهم لمْ يَقْرَؤُهَا مِنْ قَبلُ!
ورَاحُوا بِحُزنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيهُم وَقَد وَهَنَت منهم ظُهُورٌ وَأَعضُدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوماً رَزِيَّةُ هَالِكٍ رَزِيةَ يَومٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ
لَقَد غَسَّلُوا رَسُولَ اللهِ وَعَليهِ ثِيَابُهُ, فَصاروا يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوقَ القَمِيصِ وَيَدلِكونَهُ! فاللهمَّ احشُرنا تَحتَ لِوائِهِ، وأَورِدْنَا حَوضَهُ، وأَسقِنَا بِيدِهِ شَربَةً هَنِيئَةً يَارَبَّ العَالَمينَ.