مما يُسخط الناس على أنفسهم وعلى حياتهم .. ويحرمهم لذة السعادة ,
إنهم قليلو الإحساس بما أسبغ الله تعالى عليهم من نعم غامرة
فتراهم ساخطين على ما في أيديهم .. متغافلين عما وهبهم الله
من نِعَم لا تُعد ولا تُحصَى ..يهتفون دائما ينقصنا كذا وكذا ..
متطلعين إلى ما في أيدي الآخرين .. يبكون حظهم وينعون أنفسهم
وينوحون على دنياهم.. لا يشبعون ابدآ ..
لأنهم لا يشعرون ببركة في الرزق ..
وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم ..ولا لباس يواريهم ..
ولا مساكن تكنهُم ..إذ يريدون الزيادة علي ما يحتاجونه في كل شيء ..
ومهما أوتوا طلبوا المزيد !!! فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي ابدآ ..
ومن كان كذلك فلن يحصل علي السعادة طيلة حياته ..
لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء ،
وهذا من أبعد المحال . ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء،
وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور ، ويأبى اللّه - تعالى- الكمال المطلق لأحد من خلقه
كائنا من كان .. لذا كانت القناعة والرضا من النعم العظيمة..
والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها .
ولو هؤلاء قد قنعوا بالقليل لما بقي بينهم فقير ولا محروم ..
ولو رضوابما قـُسم لهم لاستغنوا عن الناس ..وما في أيدي الناس ..
وصاروا أعزاء وإن كانوا لا يملك من الدنيا الكثير.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
رأيت القناعة رأس الغنى.. ... ..فصرتُ بأذيالها مُمتسكْ
فلا ذا يـراني على بابه.. ... .. ولا ذا يراني به منهمكْ
فصرتُ غنيًّا بلا درهم.. ... .. أمرٌ على الناس شبه الملكْ
فالتزام القناعة عسير على بني آدم -
إلا من وفقه اللّه للهدى وكفاه شر نفسه وشُحها وطمعها ..
لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك ؛
ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة
لكن المؤمن عميق الإحساس بما مَن الله عليه من نِعم ..
فهو يراها في عافيته ..يراها في ولده ..يراها في مطعمه ومشربه ..
يراها في مسكنه .. يراها في هدوء نفسه وسكينتها ..
يراها في هداية الله له للإسلام .. يراها في كل شيء حوله.
وهذا الإحساس بالنعم يمنحه شعورا بالرضا بما قسم الله له من رزق ..
وما قدر له من مواهب .. وما وهب له من حظ .. وهذا هو لب القناعة .
ففي قناعة المرء بما وهبه الله تعالى سعادة النفس
وهدوء البال والشعور بالأمن والسكينة ..فهو لا يتطلع إلي ما عند الآخرين ..
ولا يشتهي ما ليس تحت يده ..فيكون محبوبآ عند الله وعند الناس ..
ويصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس "
وبها يتحرر من عبودية المادة والراحة من الحرص والطمع وعنائهما المرهق
فالقانع يعلم إن الرزق موزع بين العباد بالعدل والقسطاط من العادل سبحانه وتعالي ..
وأن ما لديه هو نصبيه من هذه الدنيا .. وما لدي غيره هو نصيبهم منها ..
فرضي فأصبح أسعد حالآ وأرخى بالا .. وأكثر دعة واستقرارا
من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه ..
الذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم ..
وفي هذا يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله :
" من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه "
وقد قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
" اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدا على رزق الله ،
ولا تَلُمْ أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص،
ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته
جعل الروْح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط."
وقال بعض الحكماء: " وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع."
فكم من غني طامع عنده من المال ما يكفيه وولده ولو عُمر ألف سنة ..
ولكن حرصه يدفعه للمخاطرة بدينه ووقته وجهده طلبا للمزيد
وكم من فقير قنوع يرى أنه أغنى الناس، وهو لا يجد قوت يومه ..
إن الغنى الحقيقي غنى النفس ورضاها بما قسمه الله لها من عطاء،
وهذا مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
" ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس"
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
"أترى يا أبا ذر أن كثرة المال هي الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا".
وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى ؟ قال: " قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك. "