وبعد هذه المقابلة الصعبة، وعقب هذا اللقاء القاسي المرير مع أبي قتادة
جاءه الابتلاء الثالث :
الذي عبر عنه بقوله: "وبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك،
قال: فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا فقرأته فإذا فيه:
أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك".
نعم لقد استغل ملك غسان هذه الظروف التي يمر فيها كعب، لأنه يعلم أبعاد مثل هذا الطلب، ويعلم ما يعنيه استمالة قلبه في هذه الحالة، فكعبٌ له مكانته في المجتمع
إذ معروفًا بشعره ومكانته، ويعلم كذلك أثر ذلك في شق صف المسلمين ولذلك كان ملك غسان شديد الحرص على ذلك.
لو حصل مثل الأمر في زماننا لعده الكثيرون مخرجًا وفرجًا له، واعتبروه نصرًا يخرجهم من الضيق والألم إلى أوسع أبواب العزة، ولكن هذا يحصل عند غير المؤمن
الذي يعلم علم اليقين أن الدنيا بكل ما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضه، وأن أي حل يأتي في غير طاعة الله تعالى ورضوانه، إنما هو الخسران بعينه، والخيبة بكل معانيها
فكان هذا الكتاب بالنسبة إلى كعب بمثابة الابتلاء حيث قال:
"فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها". نعم، حرق كعب بن مالك ذلك الكتاب ولم يندم،
حرقه وهو يعلم أنه من ملك غسان نفسه، وهو ما يعني في زماننا الجنسية أو اللجوء السياسي
حرق الكتاب في التنور وهو يعلم أن فيه سبب نجاة لو أراد، حرقه وهو يعلم أن فيه ما ينسيه الألم الذي هو فيه،
ولكن كعبًا لم يكن يسأل عن دنيا يصيبها، أو عن مكانة يتطلع إليها في هذه الدنيا الفانية. نعم! لا غرابة في هذا،
فالمؤمن حين يخالط الإيمان بشاشة قلبه يسمو هدفه، وتشمخ نفسه
وتصبح عنده الدنيا بكل ما فيها مجرد أوهام لا يمكنها أن تجذب قلبه أو تحرفه عن حب الله تعالى أو حب رسوله صلى الله عليه وسلم.
يتبـــــــع