‏فن التذوق الاقتصادي

<img src="https://argaamplus.s3.amazonaws.com/094e1179-4d40-4f86-9390-a6bc6811807f.png" >إسلام زوين الرئيس التنفيذي لـ"أرقام"

<hr>
الجريش طبق موغل في القدم، اعتمدته المملكة العربية السعودية طبقا وطنيا العام الماضي، فهو أحد أهم مكونات تراث المملكة الثقافي. وقبل حوالي أسبوع، دُعيت إلى مأدبة عامرة في منزل أحد الأصدقاء المقربين، بها أطباق سعودية أخرى كالكبسة، والمرقوق، والقرصان وهي أكلات متوارثة منذ زمن بعيد، وتدل على تمسك السعوديين بهويتهم وحضارتهم العريقة. وللجريش تحديدا مذاقه الخاص، كما مذاق القهوة السعودية التي تترافق مع التمر الفاخر بعد تناول الطعام، كدليل على كرم وحسن الضيافة.



ويُقصد بالتراث الثقافي الأشياء الموروثة أباً عن جد والمتجذرة في مجتمع ما، سواء كان تراثاً ثقافياً ملموساً كالمباني، والآثار، واللوحات الفنية والأطعمة، أو تراثاً ثقافياً غير ملموس كالعادات والتقاليد، والشعر، والموسيقى.



ولكن إذا ما تحدثنا عن المطبخ السعودي ومأكولاته الشهية، فعلينا أن نتساءل أيضًا: هل هناك بُعد اقتصادي وراء المعارض والفعاليات التي تتباهى بالتراث الوطني، خاصة أنها لا تهدف إلى الربح بطبيعة الحال؟ الحقيقة هي أن هذا النوع من التراث لا يقتصر دوره على المعارض والمتاحف فحسب، بل إنه يمتد ليصبح محفزا مهما ورئيسا للنمو الاقتصادي.



وأزعم أن المرقوق والجريش والحنيني والأرز البخاري والتمر والقهوة السعودية، وغيرها من الأطباق الوطنية، يمكن اعتبارها أصولاً اقتصادية بسبب رأس المال الثقافي الذي يمثله هذا التراث، فنحن نتحدث عن آلاف السنين من عبق التاريخ المتمثلة في معلم تاريخي، أو تحفة فنية، أو طبق على مائدة العائلة، جلها تعمل على الحفاظ على الجذور الثقافية للبلد لصالح الأجيال المقبلة.



وقد قدم مجلس التقارير المالية ASB، وهو هيئة مالية مستقلة في المملكة المتحدة وأيرلندا، تعريفا محددا للأصول التراثية، اعتمده لاحقا مجلس معايير المحاسبة في المملكة المتحدة FRS، وهو: "الأصول ذات الصفات التاريخية أو الفنية أو العلمية أو التكنولوجية أو الجيوفيزيائية أو البيئية التي يتم الاحتفاظ بها وصيانتها بشكل أساسي لمساهمتها في المعرفة والثقافة".



ومن نافلة القول إن التراث الوطني لأي بلد يُعد عامل جذب مهمًا للسائحين، ومن ثم يُدر دخلا مهما في عائدات قطاع السياحة. فالسياحة أداة للتعريف بالتراث الثقافي وإثبات أهميته كثروة مادية ومعنوية، كما أنه ذاكرة وطنية وإنسانية.



ووفقاً لدراسة استقصائية أجرتها المفوضية الأوروبية، فإن 20% من الزوار الأوروبيين لديهم دافع ثقافي عند زيارتهم بلدا جديدا، في حين أن 60% من السياح الأوروبيين مهتمون باكتشاف القيم والتقاليد الثقافية للأماكن التي يزورونها.



وتكشف الأبحاث الأكاديمية في علم النفس الاقتصادي عند دراسة سلوك المستهلك أن التراث التاريخي يرتبط في ذهن الفرد بمعان جميلة تتعلق بالأصالة والاستقرار والمصداقية والثقة في المنتج، ما يشجعه في اتخاذ قرار الشراء. ومن منظور اقتصادي، فإن الاستفادة من التراث التاريخي، على أنه "Brand" أو علامة تجارية، تعد بمثابة تسخير الماضي لتعزيز النمو الاقتصادي في الحاضر والمستقبل.



ولعلنا نتذكر تلك الجملة الجميلة "رحلة عبر الزمن" عند إعادة افتتاح مدينة العلا التاريخية، فهي أكثر من مجرد شعار لأعجوبة التاريخ والطبيعة في السعودية، وذلك عندما كشفت المملكة عن الوجهة السياحية الممتزجة بالتاريخ والثقافة وجمال الطبيعة، والتي تشتمل على أماكن ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، كجزء من رؤية المملكة لتنويع الموارد الاقتصادية وفي مقدمتها السياحة.



كما أطلقت المملكة في عام 2019 نظام التأشيرة الإلكترونية، مرحبةً بملايين السياح والزوار من عشرات الدول حول العالم. وفي العام الماضي، أنفق السياح المحليون والدوليون أكثر من 250 مليار ريال سعودي، وهو يمثل أكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي و7% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي ما يعكس الدور المهم للسياحة في تنويع الاقتصاد السعودي.



وبما أنه يوجد علم الاتصال المؤسسي، وهو تدريس طرق التواصل بين المؤسسة مع مختلف الجماهير، فإن جواهرنا الثقافية والتاريخية في المملكة جزء من الاتصال التراثي، الذي يُعد مدخلا من مداخل علم التسويق الأوسع نطاقاً. فيمكن لبلد ما أن يقدم تراثه الثقافي السياحي من خلال مجموعة متنوعة من العناصر بما في ذلك الأطباق المحلية والهندسة المعمارية الخاصة ومنتجات الحرف اليدوية التقليدية.



في كتابه "ثقافة النمو"، يصف أستاذ الاقتصاد والتاريخ الأمريكي جويل موكير الثقافة بأنها "مجموعة من المعتقدات والقيم القادرة على التأثير على السلوك، والتي تنتقل اجتماعياً وتتشاركها مجموعة فرعية من المجتمع". (فلنأخذ مثلا الثقافة الهندية في المجتمع البريطاني).



وفي كتاب "ثروة الأمم" للفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث، والملقب بـ "أبو الاقتصاد الحديث"، تُحدد الثقافة والتراث وطرق الاستفادة منهما عاملي الغنى والفقر في أي بلد. 



ومن ثم يمكن أن يكون التراث كعلامة تجارية لبلد أداة تنافسية عند دخول الأسواق الدولية، بل إنه بالفعل كنز بالنسبة للمسؤولين التنفيذيين في مجال التسويق في أي بلد يفخر بتاريخه العريق.



لقد أصبح كل من التراث كـ "علامة تجارية" مَجازية، والتراث الثقافي مترابطين للغاية في علم الاقتصاد، ما يمكّن البلد من الاستفادة القصوى من قوته التاريخية. لنتحدث إذن عن الجريش، والدف، والعود، والعُلا، فعلم الاقتصاد لا يتعلق فقط بالميزانية والبيانات المالية، والربحية، والنظريات الجامدة.



إسلام زوين، الرئيس التنفيذي لـ"أرقام".
‏

المصدر...