طالع نسبه
13-02-2022, 07:33 AM
في رائعته "ساحر الصحراء" أو "الخيميائي" يشير الكاتب والروائي "باولو كويلهو" إلى أنه لكي تعرف المستقبل عليك أن تنتبه فقط للعلامات، وإذا انتبهت لها ستعرف إلى أين يقودك طريقك وبناء على ذلك تقرر الاستمرار به أو البحث عن طريق آخر.
لذا فإن الحديث حول أي "استقراء" للمستقبل دون استخدام "علامات" أو دلالات هو محض عبث، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأسواق بمحتلف أنواعها سواء كانت مالية أو سلعية، والتي تستخدم أدوات عدة للوصول لاستقراء يسعى لأن يجنبها "الهزات" والخسائر ويقربها للأرباح.
وتستخدم الأسواق العديد من "العلامات" لمحاولة التنبؤ بالمستقبل، ويكون بعضها ناجعًا في تحقيق مأربه، وبعضها غير ذلك، إلا أنها تبقى أدوات تحاول تنحية التحيزات الشخصية الضيقة والاعتماد على وسائل استقراء مستقبل بعيدًا عن "البلورة السحرية" و"قراءة الفنجان".
المحللون
هل سيرتفع سعر سهم تلك الشركة أم سينخفض؟ هل العقود الآجلة أعلى قيمة من تلك الحالية أم أقل؟ هل يجب الاستثمار في تلك التجارة أم تجنبها؟ كل تلك الأسئلة "المستقبلية" تلجأ الأسواق فيها إلى رأي المحللين باستمرار، ولكن يبقى السؤال هل تلك أداة ناجعة؟
ولعل ما حدث مؤخرًا مع "فيسبوك/ميتا" مؤشر واضح جدًا على محدودية الاعتماد على قراءات المحللين لأسعار الأسهم، في ظل تقدير إصدار مثل "الكتاب الصغير في الاستثمار السلوكي" لـ"جيمس مونتيه" أن تقديرات المحللين تخطئ بنسبة 94%، إن كانت التوقعات لعامين مقبلين، وتخطئ بنسبة 45% في المدى القصير (وهو أسهل في التنبؤ)، وفي هذه الحالة "ميتا" كان الفشل أقصر مدة من ذلك بكثير أيضًا.
ففي بداية شهر فبراير الحالي أعلنت شركة "ميتا" المالكة لـ"فيسبوك" عن انخفاض عدد مستخدمي الموقع النشطين لأول مرة في تاريخه (والذي يبلغ 18 عامًا) وتقلص في الإيرادات بشكل عام مما تسبب في حالة من القلق هبطت بسعر سهم الشركة من 323 دولارًا إلى 244 دولارًا في يوم واحد.
وبالتالي تراجعت قيمة الشركة السوقية 200 مليار دولار خلال جلسة واحدة، وخسر مؤسسها مارك زوكربرغ 29 مليار دولار في يوم واحد تقريبًا (في ثاني أكبر خسارة لشخص في التاريخ بعد إيلون ماسك بـ35 مليار دولار).
فتراجُع سهم "ميتا" كان منتظرًا في مواجهة خصمها الصيني "تيك توك"، منذ فترة طويلة ولا سيما في الربع الأخير لعام 2021، حيث كشف في تقرير لوكالة We Are Social أن عدد مستخدمي "تيك توك" زاد 650 ألفًا في اليوم خلال الربع الأخير من 2021، فيما ارتفع عدد المستخدمين النشطين بنسبة 45%، وزادت إيرادات الشركة الأم لـ"تيك توك" "بايت دانس" بنسبة 70% بشكل مجمل في 2021.
والشاهد هنا أن "تيك توك" شكلت أحد أهم التحديات التقليدية التي تواجهها أي شركة، وهي المنافسة، وعلى الرغم من ذلك فقد فشل المحللون في توقع الهزة التي أصابت أسهم الشركة وهبطت بمؤشرات وول ستريت بالكامل في 3 فبراير الماضي رغم وضوح "العلامات".
لماذا الإقبال على المحللين رغم الإخفاق؟
وتشمل تلك العلامات تراجع معدل نمو المستخدمين النشطين لـ"فيسبوك" في الربع الثالث من 2021 لأدنى مستوياته (بما يعكس منحنى تنازليًا في الأفق)، فضلًا عن تخطي "تيك توك" لكل المواقع حول العالم، بما فيها "جوجل"، في بداية 2022 لتصبح الموقع الأول عالميًا، والأزمات مع "أبل" حول الخصوصية واستخدام تطبيقات "ميتا" على نظام تشغيل "أي.أو.إس".
كل تلك المؤشرات لم تقض مضاجع المحللين لينصحوا "مبكرًا" بالتخلص من أسهم "ميتا"؛ لأنها ستشهد انخفاضًا، ولو بشكل مؤقت حتى تعود مشاريعها الجديدة المتعلقة بـ"الميتافيرس" بالعائدات على الشركة أو حتى تظهر مؤشرات واضحة عن عائداتها المتوقعة.
إذًا فلماذا تستمر الأسواق والمتعاملون فيها في الاستماع إلى نصائح المحللين التي لم تمكنهم من الإفلات من أزمات مالية وانهيارات مفاجئة في أسعار الأسهم؟ يرجع هذا إلى رغبة المتعاملين في السوق بالشعور بقدر من الأمان من خلال الاستشارات المقدمة من المحللين الذين يفترض بهم أن يكونوا "ذوي خبرة".
وفي هذا الأمر، يقول المستثمر البريطاني الشهير "بنيامين جراهام" "إن التنبؤ بأسعار الأوراق المالية ليس جزءًا من التحليل المالي" ولكن هذا لا يمنع الكثير من المحللين بالخروج علينا بتخمينات بشأن الأسعار المستقبلية للأسهم، تكون عادة أعلى من الأسعار الحالية؛ وذلك لأنها سلعة مطلوبة (من السوق) حتى لو لم تكن "فعالة" أو ذات جدوى.
على سبيل المثال، في بداية عام 2008، أشار متوسط توقعات المحللين للأسعار المستهدفة للأسهم في السوق الأمريكي إلى ارتفاعها بنسبة 24%، ومع ذلك انخفضت الأسعار بنسبة 40% بنهاية العام.
اسألوا أهل الذكر
هل يمكنك تخيل أكثر عمليات البحث التي يشهدها جوجل والمتعلقة برجل الأعمال الشهير الملياردير "وارن بافيت"؟... حسنًا هي حول الأسهم التي اشتراها مؤخرًا أو تلك التي يمتلكها حاليًا أو التي استثمر فيها بكثافة خلال عام 2021.
ويأتي "تتبع" بافيت لما عُرف عنه من تحقيق نتائج ممتازة في استثماراته في الأسهم، بما يدفع كثيرين لاقتفاء أثره، حتى أن أبرز 10 أسهم استثمر فيها "بافيت" لعام 2021 صعدت بنسب فاقت 30% كلها ووصلت إلى حدود 50% في بعضها.
ولهذا سببان؛ الأول قدرات "بافيت" الجيدة في استقراء حركة السوق وقراءة بياناته، والثاني إقبال كثيرين على الاستثمار فيما يستثمر فيه "بافيت" لثقتهم في قدرته على استقراء المستقبل، (على الرغم من أنهم يخالفون بذلك نصيحة المستثمر الأمريكي نفسه بعدم الاستثمار إلا في المجالات التي تفهم فيها).
ومثال آخر على اتجاه الأسواق لـ"استقراءات" "المؤثرون"، هو ما تفعله تغريدات "إيلون ماسك" بسوق العملات الرقمية، ومنها تلك التغريدة التي أعرب فيها عن استعداده لتناول وجبة أطفال من مطعم "ماكدونالدز" بشرط قبولهم بالعملة المشفرة "دوج كوين"، وارتفعت قيمة العملة بعد تغريدته مباشرة.
وبغض النظر عن سبب قيام "ماسك" بذلك، حيث يُتهم بمضاعفة قيمة تلك العملات لقيامه شخصيًا بالاستثمار فيها، إلا أن المؤكد أن الأسواق المرتبطة بالعملات المشفرة ترى في تغريداته مؤشرًا للمستقبل، حتى أن أسعار بعض العملات زادت بنسبة 10% بعد تغريداته، فضلاً عن مساهمة قراره بقبول "تسلا" لبعض العملات المشفرة كوسيلة إيفاء بالثمن في استمرار القيم العالية لبعض العملات المشفرة.
أسواق التوقعات
أسواق التوقعات هي عبارة عن كيانات أقيمت خصيصًا لكي تتمكن الأسواق والمتعاملون فيها من رؤية تجارب عملية حول تأثير أحداث بعينها، مثل أثر انتخاب رئيس أمريكي مثلًا على الأسواق فهي تعتبر بيئات اختبار مثالية لبيان تأثير أحداث متعددة سويًا على السوق في ظل صعوبة استقراء آثار تلك الأحداث.
وربما يكون أطول سوق للتنبؤ قيد التشغيل هو "سوق أيوا التعليمي" (IEM)، وهو سوق تجريبي تديره جامعة أيوا، وتحديدًا كلية إدارة الأعمال، وعلى الرغم من أنه بدأ تطويره بالأساس لأغراض البحث والتعليم إلا أن الأسواق تستفيد مما يجريه من أبحاث علمية.
فمنذ ثمانينيات القرن الماضي قدم سوق أيوا تقديرات أكثر دقة لمن سيربح الانتخابات الأمريكية وبهامش خطأ أقل من 1.5% في نسبة كل مرشح، بينما وصلت هامش الخطأ المتوسط في استطلاعات الرأي "المعتبرة" إلى 2.9% وهو ما يؤشر لإمكانية الاعتماد عليها لتوفير صورة أدق عن المستقبل مما هو الحال بالنسبة لاستطلاعات الرأي التقليدية.
وهناك أسواق أخرى مماثلة مثل سوق هوليود، حتى أن شركة "غوغل" وشركة "مايكروسوف" كان لديهما في فترة أسواق مماثلة للتنبؤ بالأحداث المستقبلية وتأثيرها على أسعار الأسهم بل والسلع والخدمات.
أدوات أخرى
يأتي تتبع خيارات صناديق التحوط بين العلامات التي يستخدمها السوق في استقراء المستقبل، ولا سيما في المجالات الجديدة، ولعل من ذلك رصد استثمارات حوالي 700 صندوق تحوط وتقديم أكثر 12 سهمًا تستثمر فيها تلك الصناديق في مجال الذكاء الاصطناعي، بوصفه مجالًا حديثًا، من قبل موقع مثل "ياهو فاينانس" باعتبار هذه وسيلة للتبصر بمستقبل هذه الأسهم.
وهناك شركات رصد الأسواق التي تصدر باستمرار تقارير تشير لمستقبل الاستثمار في مجال بعينه وتشكل علامة أيضًا على توجه السوق في الاستثمارات المستقبلية، ولاسيما إذا كانت من قبل شركات مرموقة في هذا المجال.
وهناك أدوات أخرى تستخدمها الأسواق للتنبؤ بالمستقبل ومن بينها ما يعرف بـ"المتنبئين" وتعني وجود مجموعة من الأشخاص الذين يعملون معًا على استقراء المستقبل بشكل جماعي بناء على معلومات يتم إمدادهم بها، ويتم هذا العمل بشكل جماعي لتلافي الانحيازات الفردية.
كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي، وإن كان الأمر لا يزال تجريبيًا ومحدودًا، ولكن يشير كتاب "آلة التنبؤ" إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح جاهزًا لاستخدامه في مثل تلك المجالات المعقدة، ضاربًا المثل بالسيارة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي رغم عشرات المتغيرات التي تحيطها باستمرار.
وهناك بالطبع المؤشرات العامة التي تؤثر على الأسواق مثل توقعات رفع الفائدة أو خفضها ومؤشرت التضخم وثقة المستهلك والاتجاه الاقتصادي والسياسي للدول الكبرى، وغالبًا ما يتم التحوط منها بشكل مقدم، ويبقى ملاحظة أن كل تلك مؤشرات "عقلية" أو ما يعرف في السوق بـ"الأساسيات" وهي مؤشر واضح لكنه مقترن بمؤشر آخر متغير ويصعب ضبطه وهو "معنويات المتعاملين".
وعلى الرغم من كل تلك الأدوات، سواء الفعالة أو غير ذلك، يبقى "استقراء" الأسواق للمستقبل قاصرًا، والدليل على ذلك الهزات التي تعرضت لها الأسواق خلال الشهر الأخير بسبب شركات مثل سوني وميتا ونتفليكس واكتيفيجن بليزرد، وهي هزات محتملة إذا ما تمت مقارنتها بتلك التي شهدها العالم عام 2008، والتي أبرزت "ضريبة" عدم التتبع الجيد للعلامات، لتبقى النصيحة الدائمة الجيدة بالاهتمام بـ"الاستعداد" أكثر من الاستقراء (على أهمية الأخير وحتميته).
وبالنهاية ينبغي الالتفات إلى أن نصيحة "كويلهو" في "الخيميائي" بالانتباه إلى العلامات في طريقه إلى تحويل التراب إلى ذهب (وتلك هي المهنة المفترضة للخيميائي)، وإلا سيقطع رحلة طويلة مليئة بالصعاب بلا طائل.
المصادر: أرقام، بلومبرغ، ***** بلاس، ياهو فاينانس، كتاب Advances in Business and Management Forecasting، "سي.إم.ايي جروب"، وكالة الأنباء الفرنسية.
لذا فإن الحديث حول أي "استقراء" للمستقبل دون استخدام "علامات" أو دلالات هو محض عبث، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأسواق بمحتلف أنواعها سواء كانت مالية أو سلعية، والتي تستخدم أدوات عدة للوصول لاستقراء يسعى لأن يجنبها "الهزات" والخسائر ويقربها للأرباح.
وتستخدم الأسواق العديد من "العلامات" لمحاولة التنبؤ بالمستقبل، ويكون بعضها ناجعًا في تحقيق مأربه، وبعضها غير ذلك، إلا أنها تبقى أدوات تحاول تنحية التحيزات الشخصية الضيقة والاعتماد على وسائل استقراء مستقبل بعيدًا عن "البلورة السحرية" و"قراءة الفنجان".
المحللون
هل سيرتفع سعر سهم تلك الشركة أم سينخفض؟ هل العقود الآجلة أعلى قيمة من تلك الحالية أم أقل؟ هل يجب الاستثمار في تلك التجارة أم تجنبها؟ كل تلك الأسئلة "المستقبلية" تلجأ الأسواق فيها إلى رأي المحللين باستمرار، ولكن يبقى السؤال هل تلك أداة ناجعة؟
ولعل ما حدث مؤخرًا مع "فيسبوك/ميتا" مؤشر واضح جدًا على محدودية الاعتماد على قراءات المحللين لأسعار الأسهم، في ظل تقدير إصدار مثل "الكتاب الصغير في الاستثمار السلوكي" لـ"جيمس مونتيه" أن تقديرات المحللين تخطئ بنسبة 94%، إن كانت التوقعات لعامين مقبلين، وتخطئ بنسبة 45% في المدى القصير (وهو أسهل في التنبؤ)، وفي هذه الحالة "ميتا" كان الفشل أقصر مدة من ذلك بكثير أيضًا.
ففي بداية شهر فبراير الحالي أعلنت شركة "ميتا" المالكة لـ"فيسبوك" عن انخفاض عدد مستخدمي الموقع النشطين لأول مرة في تاريخه (والذي يبلغ 18 عامًا) وتقلص في الإيرادات بشكل عام مما تسبب في حالة من القلق هبطت بسعر سهم الشركة من 323 دولارًا إلى 244 دولارًا في يوم واحد.
وبالتالي تراجعت قيمة الشركة السوقية 200 مليار دولار خلال جلسة واحدة، وخسر مؤسسها مارك زوكربرغ 29 مليار دولار في يوم واحد تقريبًا (في ثاني أكبر خسارة لشخص في التاريخ بعد إيلون ماسك بـ35 مليار دولار).
فتراجُع سهم "ميتا" كان منتظرًا في مواجهة خصمها الصيني "تيك توك"، منذ فترة طويلة ولا سيما في الربع الأخير لعام 2021، حيث كشف في تقرير لوكالة We Are Social أن عدد مستخدمي "تيك توك" زاد 650 ألفًا في اليوم خلال الربع الأخير من 2021، فيما ارتفع عدد المستخدمين النشطين بنسبة 45%، وزادت إيرادات الشركة الأم لـ"تيك توك" "بايت دانس" بنسبة 70% بشكل مجمل في 2021.
والشاهد هنا أن "تيك توك" شكلت أحد أهم التحديات التقليدية التي تواجهها أي شركة، وهي المنافسة، وعلى الرغم من ذلك فقد فشل المحللون في توقع الهزة التي أصابت أسهم الشركة وهبطت بمؤشرات وول ستريت بالكامل في 3 فبراير الماضي رغم وضوح "العلامات".
لماذا الإقبال على المحللين رغم الإخفاق؟
وتشمل تلك العلامات تراجع معدل نمو المستخدمين النشطين لـ"فيسبوك" في الربع الثالث من 2021 لأدنى مستوياته (بما يعكس منحنى تنازليًا في الأفق)، فضلًا عن تخطي "تيك توك" لكل المواقع حول العالم، بما فيها "جوجل"، في بداية 2022 لتصبح الموقع الأول عالميًا، والأزمات مع "أبل" حول الخصوصية واستخدام تطبيقات "ميتا" على نظام تشغيل "أي.أو.إس".
كل تلك المؤشرات لم تقض مضاجع المحللين لينصحوا "مبكرًا" بالتخلص من أسهم "ميتا"؛ لأنها ستشهد انخفاضًا، ولو بشكل مؤقت حتى تعود مشاريعها الجديدة المتعلقة بـ"الميتافيرس" بالعائدات على الشركة أو حتى تظهر مؤشرات واضحة عن عائداتها المتوقعة.
إذًا فلماذا تستمر الأسواق والمتعاملون فيها في الاستماع إلى نصائح المحللين التي لم تمكنهم من الإفلات من أزمات مالية وانهيارات مفاجئة في أسعار الأسهم؟ يرجع هذا إلى رغبة المتعاملين في السوق بالشعور بقدر من الأمان من خلال الاستشارات المقدمة من المحللين الذين يفترض بهم أن يكونوا "ذوي خبرة".
وفي هذا الأمر، يقول المستثمر البريطاني الشهير "بنيامين جراهام" "إن التنبؤ بأسعار الأوراق المالية ليس جزءًا من التحليل المالي" ولكن هذا لا يمنع الكثير من المحللين بالخروج علينا بتخمينات بشأن الأسعار المستقبلية للأسهم، تكون عادة أعلى من الأسعار الحالية؛ وذلك لأنها سلعة مطلوبة (من السوق) حتى لو لم تكن "فعالة" أو ذات جدوى.
على سبيل المثال، في بداية عام 2008، أشار متوسط توقعات المحللين للأسعار المستهدفة للأسهم في السوق الأمريكي إلى ارتفاعها بنسبة 24%، ومع ذلك انخفضت الأسعار بنسبة 40% بنهاية العام.
اسألوا أهل الذكر
هل يمكنك تخيل أكثر عمليات البحث التي يشهدها جوجل والمتعلقة برجل الأعمال الشهير الملياردير "وارن بافيت"؟... حسنًا هي حول الأسهم التي اشتراها مؤخرًا أو تلك التي يمتلكها حاليًا أو التي استثمر فيها بكثافة خلال عام 2021.
ويأتي "تتبع" بافيت لما عُرف عنه من تحقيق نتائج ممتازة في استثماراته في الأسهم، بما يدفع كثيرين لاقتفاء أثره، حتى أن أبرز 10 أسهم استثمر فيها "بافيت" لعام 2021 صعدت بنسب فاقت 30% كلها ووصلت إلى حدود 50% في بعضها.
ولهذا سببان؛ الأول قدرات "بافيت" الجيدة في استقراء حركة السوق وقراءة بياناته، والثاني إقبال كثيرين على الاستثمار فيما يستثمر فيه "بافيت" لثقتهم في قدرته على استقراء المستقبل، (على الرغم من أنهم يخالفون بذلك نصيحة المستثمر الأمريكي نفسه بعدم الاستثمار إلا في المجالات التي تفهم فيها).
ومثال آخر على اتجاه الأسواق لـ"استقراءات" "المؤثرون"، هو ما تفعله تغريدات "إيلون ماسك" بسوق العملات الرقمية، ومنها تلك التغريدة التي أعرب فيها عن استعداده لتناول وجبة أطفال من مطعم "ماكدونالدز" بشرط قبولهم بالعملة المشفرة "دوج كوين"، وارتفعت قيمة العملة بعد تغريدته مباشرة.
وبغض النظر عن سبب قيام "ماسك" بذلك، حيث يُتهم بمضاعفة قيمة تلك العملات لقيامه شخصيًا بالاستثمار فيها، إلا أن المؤكد أن الأسواق المرتبطة بالعملات المشفرة ترى في تغريداته مؤشرًا للمستقبل، حتى أن أسعار بعض العملات زادت بنسبة 10% بعد تغريداته، فضلاً عن مساهمة قراره بقبول "تسلا" لبعض العملات المشفرة كوسيلة إيفاء بالثمن في استمرار القيم العالية لبعض العملات المشفرة.
أسواق التوقعات
أسواق التوقعات هي عبارة عن كيانات أقيمت خصيصًا لكي تتمكن الأسواق والمتعاملون فيها من رؤية تجارب عملية حول تأثير أحداث بعينها، مثل أثر انتخاب رئيس أمريكي مثلًا على الأسواق فهي تعتبر بيئات اختبار مثالية لبيان تأثير أحداث متعددة سويًا على السوق في ظل صعوبة استقراء آثار تلك الأحداث.
وربما يكون أطول سوق للتنبؤ قيد التشغيل هو "سوق أيوا التعليمي" (IEM)، وهو سوق تجريبي تديره جامعة أيوا، وتحديدًا كلية إدارة الأعمال، وعلى الرغم من أنه بدأ تطويره بالأساس لأغراض البحث والتعليم إلا أن الأسواق تستفيد مما يجريه من أبحاث علمية.
فمنذ ثمانينيات القرن الماضي قدم سوق أيوا تقديرات أكثر دقة لمن سيربح الانتخابات الأمريكية وبهامش خطأ أقل من 1.5% في نسبة كل مرشح، بينما وصلت هامش الخطأ المتوسط في استطلاعات الرأي "المعتبرة" إلى 2.9% وهو ما يؤشر لإمكانية الاعتماد عليها لتوفير صورة أدق عن المستقبل مما هو الحال بالنسبة لاستطلاعات الرأي التقليدية.
وهناك أسواق أخرى مماثلة مثل سوق هوليود، حتى أن شركة "غوغل" وشركة "مايكروسوف" كان لديهما في فترة أسواق مماثلة للتنبؤ بالأحداث المستقبلية وتأثيرها على أسعار الأسهم بل والسلع والخدمات.
أدوات أخرى
يأتي تتبع خيارات صناديق التحوط بين العلامات التي يستخدمها السوق في استقراء المستقبل، ولا سيما في المجالات الجديدة، ولعل من ذلك رصد استثمارات حوالي 700 صندوق تحوط وتقديم أكثر 12 سهمًا تستثمر فيها تلك الصناديق في مجال الذكاء الاصطناعي، بوصفه مجالًا حديثًا، من قبل موقع مثل "ياهو فاينانس" باعتبار هذه وسيلة للتبصر بمستقبل هذه الأسهم.
وهناك شركات رصد الأسواق التي تصدر باستمرار تقارير تشير لمستقبل الاستثمار في مجال بعينه وتشكل علامة أيضًا على توجه السوق في الاستثمارات المستقبلية، ولاسيما إذا كانت من قبل شركات مرموقة في هذا المجال.
وهناك أدوات أخرى تستخدمها الأسواق للتنبؤ بالمستقبل ومن بينها ما يعرف بـ"المتنبئين" وتعني وجود مجموعة من الأشخاص الذين يعملون معًا على استقراء المستقبل بشكل جماعي بناء على معلومات يتم إمدادهم بها، ويتم هذا العمل بشكل جماعي لتلافي الانحيازات الفردية.
كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي، وإن كان الأمر لا يزال تجريبيًا ومحدودًا، ولكن يشير كتاب "آلة التنبؤ" إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح جاهزًا لاستخدامه في مثل تلك المجالات المعقدة، ضاربًا المثل بالسيارة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي رغم عشرات المتغيرات التي تحيطها باستمرار.
وهناك بالطبع المؤشرات العامة التي تؤثر على الأسواق مثل توقعات رفع الفائدة أو خفضها ومؤشرت التضخم وثقة المستهلك والاتجاه الاقتصادي والسياسي للدول الكبرى، وغالبًا ما يتم التحوط منها بشكل مقدم، ويبقى ملاحظة أن كل تلك مؤشرات "عقلية" أو ما يعرف في السوق بـ"الأساسيات" وهي مؤشر واضح لكنه مقترن بمؤشر آخر متغير ويصعب ضبطه وهو "معنويات المتعاملين".
وعلى الرغم من كل تلك الأدوات، سواء الفعالة أو غير ذلك، يبقى "استقراء" الأسواق للمستقبل قاصرًا، والدليل على ذلك الهزات التي تعرضت لها الأسواق خلال الشهر الأخير بسبب شركات مثل سوني وميتا ونتفليكس واكتيفيجن بليزرد، وهي هزات محتملة إذا ما تمت مقارنتها بتلك التي شهدها العالم عام 2008، والتي أبرزت "ضريبة" عدم التتبع الجيد للعلامات، لتبقى النصيحة الدائمة الجيدة بالاهتمام بـ"الاستعداد" أكثر من الاستقراء (على أهمية الأخير وحتميته).
وبالنهاية ينبغي الالتفات إلى أن نصيحة "كويلهو" في "الخيميائي" بالانتباه إلى العلامات في طريقه إلى تحويل التراب إلى ذهب (وتلك هي المهنة المفترضة للخيميائي)، وإلا سيقطع رحلة طويلة مليئة بالصعاب بلا طائل.
المصادر: أرقام، بلومبرغ، ***** بلاس، ياهو فاينانس، كتاب Advances in Business and Management Forecasting، "سي.إم.ايي جروب"، وكالة الأنباء الفرنسية.