استهل وارن بافيت نصيحة لمستمعيه حول الاستثمار بالتحذير من هفوات ونزعات التصرفات البشرية خاصة أنها مستقرة وتعيد نفسها دائما بأشكال مختلفة. رغم التقدم في المعرفة الإدارية والوعي بصنع القرارات إلا أن الفقاعات ما زالت تحدث وستستمر. من متابعة الاستثمار والمستثمرين وجدت في الاقتصاد السلوكي ما يشرح الاختلافات في الأداء حتى أسباب النجاح والفشل.
اطلعت على كتاب وليم برنستين أوهام الجمهور: لماذا نفقد عقولنا في المجموعات؟ The Delusions of Crowds:Why people go mad in Groups. الكتاب مراجعة تاريخية من مختص في علم الأعصاب ومؤلف لعدة كتب في الاستثمار. يركز الكتاب على التفريق بين التصرفات العقلانية وغير العقلانية.
البداية في التفريق بين تصرف الفرد المستقل والجماعة في تقدير الأمور، فكلما تأثر الفرد برأي الجماعة ابتعد عن التقدير العقلاني. الشخص الذي يراهن على تجربة شخصية مباشرة يكون عادة أكثر قربا من العقلانية الجماعية وإذا جمعنا متوسط تقديراتهم أو تنبؤاتهم الفردية حول قياس شيء ما دون تأثير الجماعة نجدها غالبا قريبة من الواقع، الإشكالية والانحراف عن التقدير الصواب تبدأ حين نخرج بتقدير أو تنبؤ يعكس رأي الجماعة الذي عادة يكون بعيدا عن الصواب. فكلما سيطر تقدير المجموعة على الفرد زاد الانحراف. يقال: إن الناس تفقد صوابها في المجموعة ويسترجعون توازنهم فرادى تدريجيا. يرجع الكاتب مصادر التصرف إلى ناحيتين: الأولى جاءت من تجربة الإنسان الأول حين يرى آخر يجري من خطر محدق يجعل الآخرين يهربون قبل معرفة مصدر الخطر أو حتى السؤال، والثاني الأوهام المتوارثة من طريقة تناقل المعلومات والأخبار من خلال القصص خاصة تلك التي تعزلهم عن الواقع وتحلق بهم في الخيال. نقل المعلومة من خلال القصة دائما أقوى وأكثر تأثيرا من الحسابات والتسلسل المنطقي. يقول الكاتب: إن الهوس مرض العقل وللعقل استعداد فطري للانحياز نحو الأخبار السيئة، حيث قبول سياق الخوف أقرب لطبيعة الإنسان كما أثبت علم النفس التجريبي. التقنية والتقدم العلمي لم يغير كثيرا من النزعات البشرية بل أحيانا يكبر دورها وينشرها في قطاعات ومساحات أكثر. فبعد عصر الطباعة أصبحت قصص الخرافات أكثر انتشارا خاصة المخيفة منها وأهمها التخويف بنهاية العالم التي انتشرت في أوروبا وأمريكا في فترات مختلفة حتى بعد عصر التنوير، وفي عصر الشبكة ****كبوتية الحديث وجد تنظيم داعش الإرهابي رواجا حتى جذب متحولين جددا بسبب الاستعداد لقبول نهاية العالم والدموية المصاحبة. نهاية العالم تلاقي قبولا وأيضا الطمع يأتي في المرتبة الثانية في تشكيل التصرفات.
هوس المضاربات المالية غالبا يتزامن مع التطورات في تقنية المواصلات والتواصل. أول ازدهار وفقاعة في سوق الأسهم كان في بريطانيا في نهاية القرن الـ 17 حين بدأ الناس يتابعون أسعار الأسهم في الصحافة. كذلك صاحب القطارات والتليجراف موجة من المضاربات في القرن الـ 19، وكذلك حدث في العشرينيات من القرن الماضي مع تقنية الراديو والتيليفون. وأخيرا لعل بعضنا وأنا أحدهم من ضحايا موجة شركات الإنترنت في التسعينيات من القرن الماضي. يا ترى هل نحن على شفا فقاعة أخرى مع موجة جديدة في التقنية؟ هناك عدة ترشيحات مثل العملات الرقمية بسبب تقنية البلوكتشين، أو السيارات الكهربائية، أو التقنية الافتراضية، أو المبالغة في تقييم شركات التجارة الإلكترونية بمساعدة التيسير الكمي الذي بدأ خطوات للحد منه وإيقافه في المدى المنظور خاصة أن بعض البنوك المركزية بدأ فعلا في رفع نسب الفائدة. في العمود المقبل نواصل طرح أفكار الكتاب.
مواقع النشر (المفضلة)